à partir de 39 € d'achat
- Nouveautés !
إن محتوى هذا الكتاب النادر الذي بين أيدينا والذي أعدّه "حليم اليازجي" لجديد كل الجدّة في مكتشفه ونهجه وطريقته، كما أنه من غبن التواضع بمكان اعتباره جمعاً لتفاريق، أو بسطاً لمختصر، أو اختصاراً لمبسوط. ولكن خير ما يقال فيه انه متمم ومكمل لما سبقه من دراسات أعدت قبله للحديث عن الحركة الأدبية في السودان، إذ لولاها لما تهيأ له الظهور على هذه الصورة، والتي من أبرز نواحي الجدة فيها فتحها الباب لمواصلة التجربة على أساس من منهج العلم الاجتماعي في الأدب. وهو منهج يقوم غناه على مدى تزود صاحبه بالاطلاع على الظواهر الاجتماعية المحيطة بالأدب. فكلما كانت المعطيات أكثر إيعاباً، وأشمل إحاطة، جاءت الدراسة من خلاله أوفى وأعمق. والباحث في ضوء هذا المنهج لا يستطيع أن يبتدع شيئاً من لا شىء، بل هو يتطلع إلى الظواهر والأفكار المبثوثة من حوله فيقطف ثمارها وينظّمها في مذهب متسق، ونظرية متماسكة. والدراسة من منظاره لا تقوم على العفوية التي لا تؤدي لغير جمع متراكم ضعيف المحصلة اجتماعياً وفنياً، وخير الدراسات الفنية والأدبية هي التي استطاعت أن تختار من بين أكوام النتاج الأدبي ما يساعد على اكتشاف عمل التطور في حياة الفنان العقلية وشحذ قواه الانفعالية والذوقية وتوجيهها. فغربلة الكم المتراكم وتنسيقه وفقاً لجدلية التحليل التاريخي تمكن الباحث من النفاذ إلى الجوهر الذي يسمى الكيف أو النوع، ظاهرة الفن الكبرى في تطلعها نحو الأسمى والأكمل. وملاحقة هذا الكيف في تطوره كان رائد الباحث في دراسته لهذا الأدب السوداني منذ نشأته في أواسط القرن السابع عشر حتى وقت تأليف هذه الأطروحة فغطى بذلك سحابة ما يزيد على ثلاثمائة عام من تاريخ الفكر الأدبي في السودان، شعره، ونثره، فكراً، وأسلوباً، وطريقة تناول. فرصد تفاعله مع بيئاته الطبيعية والمعاشية والحضارية، وما رشح إليه من ثقافات البلدان العربية والأفريقية قديماً وحديثاً، وتفاعل هذه الثقافات مع الثقافة الأوروبية الوافدة إليه مع الاستعمار البريطاني منذ بداية هذا القرن، ثم مع هذه الثقافات الأجنبية في بيئاتها الأصلية وفي منأى عن تحكّم الظروف السودانية المحلية، كل ذلك في وحدة متداخلة متكاملة تصل بين أطرافه في منهج متماسك موحّد من التناول، والعرض، والتبويب. هذا وقد حرص الباحث في دراسته هذه أن يظهر التواصل المطرد في حلقات نحو الأدب عبر عصوره. فكان لا مندوحة له، بادئ ذي بدء من تعريف القارئ بمواطن هذا الأدب في بيئاته الجغرافية والحضارية والثقافية، لاعتقاده أن الثقافة الأدبية بمفهومها العلمي هي حاصل تمثل تاريخي يمارسه الوعي الفني عبر تواصله المباشر وغير المباشر مع البيئة الطبيعية وما يجري على أرضيتها من علاقات اجتماعية ومنجزات متعددة الجوانب عبر تاريخ تطورها البشري، ولأن الإبداعات الجمالية، أي الوعي الفني -من وجهة نظر الباحث- جزء لا ينفصل عن الوعي الاجتماعي العام، ضمن الظروف التاريخية التي تحدد المواقف المعرفية المتنوعة، جعل الباحث "التعريف بالسودان" مدخلاً لهذا البحث، ولمّا كان في أصل كل مجتمع خصوصيات ذاتية، من قوى مادية وروحية وفكرية. ينفتح بها ومن خلالها على أوجه النشاط العالمي من حوله، فقد حرص الباحث على تعريف القارئ بهذه الخصوصيات، كمنطلق لملاحقتها في جدليتها التاريخية مع محيطها العربي الإسلامي والإفريقى عبر العصور، وتبيان ما أفرزته هذه الجدلية، حين انفتحت على الآفاق العالمية، من سمات ومميزات مكتسبة في الفكر والدين، كعنصرين هامين من مقومات الهيكلية الثقافية للسودان. فكانت الإشارة إلى "حداثة الثقافة العربية في السودان" إطلالة لا بدّ منها في مسيرة هذه الدراسة عن الحركة الأدبية السودانية.